زيارة نتنياهو لواشنطن- ازدواجية المعايير الأمريكية وتجاهل جرائم الإبادة الجماعية.

المؤلف: د. باسم نعيم10.19.2025
زيارة نتنياهو لواشنطن- ازدواجية المعايير الأمريكية وتجاهل جرائم الإبادة الجماعية.

بدعوة رسمية من الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، حلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ضيفًا على واشنطن يوم الاثنين الموافق 22 يوليو/تموز، وكان الهدف المحوري لهذه الزيارة هو إلقاء كلمة أمام أعضاء الكونغرس بغرفتيه الموقرتين، مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وإلى جانب هذا الحدث الهام، كان من المقرر أن يعقد سلسلة من اللقاءات والاجتماعات، أبرزها لقاء مع الرئيس الأميركي، جو بايدن.

تأتي هذه الزيارة في منعطف دقيق وحاسم، حيث تتزامن مع احتدام حملة انتخابية محمومة ونتائجها ستكون ذات تأثيرات بعيدة المدى على الدولة العبرية، وعلى صورتها ومكانتها على الصعيدين الداخلي والخارجي. يزيد من حدة هذا التوقيت إعلان الرئيس بايدن قراره بعدم الترشح لولاية رئاسية ثانية باسم الحزب الديمقراطي. ولا يقل أهمية عن ذلك أن نتنياهو يزور الولايات المتحدة، بينما يترك خلفه منطقة ملتهبة، وآلة عسكرية تنتهج أساليب وحشية في التعامل مع الفلسطينيين العُزّل.

لطالما قدمت أميركا نفسها على أنها الحصن المنيع لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، وسعت جاهدة لنشر هذه القيم في أصقاع العالم، بل وخاضت حروبًا ضروسًا "من أجلها". لكننا كفلسطينيين، أبناء هذه الأرض، ندرك جيدًا الدوافع الحقيقية وراء هذه الحروب، ونعلم أنها أبعد ما تكون عن قيم العدالة والإنصاف.

قد يتفق الجميع على أن "إسرائيل" كانت على مدى عقود طويلة قضية داخلية في واشنطن، حتى أن البعض يصفها بأنها الولاية الأمريكية الحادية والخمسون. وتعتبر العلاقة مع "إسرائيل" بمثابة قضية تتجاوز الانقسامات الحزبية.

ولكن، حتى لو كان هذا شأنًا أميركيًا داخليًا، وقد لا يكون من اللائق التدخل فيه، فإن أميركا تقدم نفسها للعالم بصفتها القوة العظمى المهتمة بالأمن والاستقرار العالميين، وخاصة في منطقتنا المضطربة؛ وهي تحتكر الملف الفلسطيني منذ عقود، وتمنع أي طرف آخر من التدخل فيه، بما في ذلك الأمم المتحدة التي تأسست استنادًا إلى قراراتها هذا الوجود بعد قرار التقسيم المشؤوم. وحيث أن سياسات هذا الكيان وقراراته تؤثر بشكل مباشر علينا كفلسطينيين وعلى مصيرنا، فإننا نعتقد أنه من حقنا الأصيل أن نسأل الولايات المتحدة بكافة مستوياتها القيادية عن السبب والدافع وراء استقبال نتنياهو، وفتح جميع الأبواب أمامه؟

هل يعقل أن القيادات الأميركية تجهل الفظائع التي يرتكبها نتنياهو وحكومته من جرائم شنيعة، وصلت إلى حد الاتهام من قبل محكمة العدل الدولية بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين؟ هذه مصيبة عظيمة. أم أنهم على دراية تامة بما تقترفه هذه الحكومة العنصرية من جرائم ومع ذلك يصرون على استقباله والترحيب به؟ هذه هي المصيبة الأعظم.

لقد صورت أميركا نفسها على مدى عقود طويلة على أنها المدافع الشرس عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، وتسعى جاهدة لنشرها في كل مكان، بل وخاضت حروبًا طاحنة "من أجلها". ولكننا كفلسطينيين وأبناء هذه البقعة من العالم، نعي تمامًا الأسباب الكامنة وراء هذه الحروب، ونعلم أنها لا تمت بصلة لقيم العدالة والحرية.

فعلى سبيل المثال، نعاني نحن الفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود من احتلال بغيض يمارس القتل والتطهير العرقي والتمييز العنصري منذ نشأته. ولكن كل هذا لم يكن ليحدث لولا الدعم الهائل الذي يتلقاه من دول الغرب بشكل عام ومن الولايات المتحدة على وجه الخصوص. إن أطفالنا ونساءنا ورجالنا كانوا وما زالوا يُقتلون بالأسلحة الأميركية، أو بالأموال الأميركية المخصصة لشراء الأسلحة بمختلف أنواعها.

ما كان لهذا الكيان أن يفلت من المساءلة والعقاب على ما ارتكبه من جرائم لولا الحماية التي منحته إياها الولايات المتحدة. فكم مرة استخدمت أميركا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن لحماية هذا الكيان وتحصينه من العقاب. وكم من قرار صدر في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وبقية المؤسسات الأممية وتجاهلته حكومة "إسرائيل" مستندة إلى الدعم الأميركي المطلق لهذه التصرفات الطائشة والتصرف كدولة فوق القانون.

بعد توقيع اتفاقية أوسلو، تولت الولايات المتحدة دور الوسيط الحصري بين طرفي النزاع، فماذا كانت النتيجة؟ لم تكن وسيطًا نزيهًا على الإطلاق، بل على العكس، منحت الغطاء السياسي والدبلوماسي، وكذلك الوقت الكافي للحكومات المتعاقبة في الكيان لتنفيذ مخططاتها التي تقوم على إنكار أي حق من حقوق الفلسطينيين في وطنهم.

بنيامين نتنياهو، الذي وقف في الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي ورفع خريطة فلسطين التاريخية وأعلن بكل صلافة أنه لن يكون بين النهر والبحر إلا دولة واحدة فقط هي "إسرائيل"، متجاهلًا أي حقوق فلسطينية، وهذا ما أكده تصويت الكنيست بالأغلبية قبل أيام، وهذا الموقف المتطرف من الصراع يتعارض مع ما تدعيه الولايات المتحدة من حق الفلسطينيين في دولة مستقلة.

هناك الكثير مما يمكن قوله عن النفاق وازدواجية المعايير الأميركية فيما يتعلق بالصراع، ولكن مساحة المقال لا تسمح بالخوض في هذا الأمر بالتفصيل. ومع ذلك، يجب أن نتوقف مليًا عند المحطة الأخيرة من الصراع، وهنا أقصد العدوان المستمر على قطاع غزة، والذي وصفته العديد من الهيئات الدولية بأنه جريمة إبادة جماعية.

بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على العدوان المتواصل الذي أسفر عن استشهاد ما يقرب من 40 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وإصابة ما يزيد على 100 ألف آخرين، والذين سيعانون من إعاقات دائمة طوال حياتهم، وتدمير ما يزيد على 70٪؜ من مباني القطاع، بما في ذلك مباني المؤسسات الأممية والمدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس، والتدمير المنهجي للبنية التحتية وتحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش حتى لو توقفت الحرب، هذا بالإضافة إلى الاستباحة الكاملة للضفة الغربية المحتلة، من خلال ضم الأراضي وتوسيع المستوطنات وتهويد القدس والقتل المستمر على مدار الساعة في كل القرى والمدن.

كل هذه الجرائم ما كانت لتحدث لولا الدعم اللامحدود الذي تتلقاه "إسرائيل" من الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، عسكريًا وأمنيًا واستخباراتيًا وماليًا وسياسيًا ودبلوماسيًا. فمنذ اليوم الأول، وعلى لسان جميع قادتها، أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر للإسرائيليين ليفعلوا ما يريدون دون خوف من أي عقاب. بل إن وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، اندمج مع الكيان وأهدافه، وقال في اليوم الأول: "جئت ليس فقط بصفتي وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، وإنما أيضًا كيهودي".

نحن كشعب فلسطيني، وعلى الرغم من التضحيات الجسام التي قدمناها ولا نزال نقدمها في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال، فإننا واثقون من مآل نضالنا، فهذه هي سنة الحياة وطبيعة الأمور بالنسبة لجميع الشعوب التي سلكت هذا الطريق. سيأتي اليوم الذي نحقق فيه آمالنا ونحتفل بإقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين، شاء من شاء وأبى من أبى.

ولكن رسالتنا اليوم موجهة إلى القيادة الأميركية والشعب الأميركي من ورائها: إن استقبال شخص متهم بجميع أنواع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية، والاحتفاء به وتمكينه من استخدام أرفع المنابر في الدولة لنشر معلومات مضللة، هو نذير شؤم عليكم قبل أن يكون علينا نحن الفلسطينيين وشعوب المنطقة. فلا يملك نتنياهو ومن يدعمه أن يفعلوا أكثر مما فعلوه حتى الآن، ومع ذلك فشلوا في تحقيق أي من أهدافهم. فبعد 75 عامًا من الاحتلال، لم ينعم هذا الكيان بالأمن والاستقرار.

إن استقبال نتنياهو يمثل تناقضًا صارخًا مع جميع القيم التي ترفعونها من حرية وعدالة وكرامة، وهو بمثابة الفصل الأخير في سلسلة الأكاذيب والنفاق التي تمارسونها، وعنوان لمرحلة جديدة تنذر بزوال هذه الإمبراطورية العظمى في تاريخ البشرية. ففي تراثنا الشرقي نقول: "إن دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة". فالدول التي تمارس الظلم أو تدعمه مصيرها الزوال حتمًا، قد لا يكون ذلك الغد أو بعد الغد، ولكنه مصير محتوم.

إن الخطوة الصائبة التي يجب أن تتخذها الدول المحترمة التي تحترم القانون هي إصدار توجيه فوري باعتقال نتنياهو بمجرد أن تطأ قدماه الأراضي الأميركية، وذلك امتثالًا لقرارات المؤسسات القضائية الدولية، وآخرها قرار المحكمة الجنائية الدولية.

شعبنا لن ينسى ولن يغفر لكل من ظلمه أو دعم من ظلمه.. فدوام الحال من المحال.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة